كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين}..
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر، يتلقون الوحي فيدعون به الناس. وما كان الرسل من قبل إلا رجالًا ذوي أجساد. وما جعل الله لهم أجسادًا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام. فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية، والجسدية من مقتضيات البشرية. وهم بحكم انهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين.. هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل. إن كانوا هم لا يعلمون.
لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم العملي نموذجًا حيًا لما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية هي التي تؤثر وتهدي، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة.
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء. ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون.
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول. لما بينه وبينهم من قطعية في الحس والشعور.
وأيما داعية لا يصدق فعله قوله. فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب. مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل. هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل.
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزهًا عن انفعالات البشر.. كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة. وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها.. لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص. وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس.
وهنالك اعتبار آخر، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته؛ لأنه من جنس غير جنسهم، وطبيعة غير طبيعتهم، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية.
وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس.
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله، باختيار الرسل منه، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه.
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت. ومن عواطف وانفعالات. ومن آلام وآمال. ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء.. وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم.. أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة.
تلك سنة الله في اختيار الرسل. ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم، وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين:
{ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلَكِنا المسرفين}..
فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم. وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانًا حقيقيًا يصدقه العمل؛ فصدقهم وعده، وأهلك، الذين كانوا يسرفون عليهم، ويتجاوزون الحد معهم.
هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراف عليه، وتكذيبه، وإيذائه والمؤمنين معه. وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية، يتبعها هلاكهم، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم. إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم، ويقوم حياتهم، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس. وهو مفتوح للعقول تتدبره، وترتفع به في سلم البشرية:
{لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون}..
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل.
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا. فلم يكن لهم قبله ذكر، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به. ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب، وقادوا به البشرية قرونًا طويلة، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب. حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية، وانحط فيها ذكرهم، وصاروا ذيلًا للقافلة يتخطفهم الناس، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون!
وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد. وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة. فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به. فأما إذا تقدموا إليها عربًا فحسب بجنسية العرب. فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة.. لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب. فذلك لا يساوي شيئًا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته. وهذا أمر له مدلول له في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة!.. ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم، وهو يقول للمشركين، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون}.
ولقد كانت رحمة بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن. ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها. فلا يأخذهم وفق سنته بالقاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت.. وهنا يعرض مشهدًا حيًا من القصم والاستئصال:
{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يويلنآ إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدًا خامدين}..
والقصم أشد حركات القطع. وجرسها اللفظي يصور معناها، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة. فإذا هي مدمرة محطمة.. {وأنشأنا بعدها قوما آخرين}.
وهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها. وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى.. وهذه حقيقة في ذاتها.
فالدمار يحل بالديار والدّيار. والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور.. ولَكِن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير، وهذا هو الظل المراد إلقاؤه بالتعبير على طريقة التصوير!
ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم، وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود:
{فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون}..
يسارعون بالخروج من القرية ركضًا وعدوا، وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله. كأنما الركض ينجيهم من بأس الله. وكأنما هم أسرع عدوًا فلا يلحق بهم حيث يركضون! ولَكِنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور.
عندئذ يتلقون التهكم المرير:
{لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون}!
لا تركضوا من قريتكم. وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد وسكنكم المريح.. عودوا لعلكم تسألون عن ذلك كله فيم انفقتموه؟!
وما عاد هنالك مجال لسؤال ولا لجواب. إنما هو التهكم والاستهزاء!
عند ذلك يفيقون فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط. وانه لا ينفعهم ركض، ولا ينقذهم فرار. فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار:
{قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين}..
ولَكِن لقد فات الأوان. فليقولوا ما يشاءون. فإنهم لمتركون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس:
{فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدًا خامدين}.
ويا له من حصيد آدمي، لا حركة فيه ولا حياة؛ وكان منذ لحظة يموج بالحركة، وتضطرب فيه الحياة!
هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها، وسننها التي تجري عليها، والتي تأخذ المكذبين بها. يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل، اللذين يقوم بهما الكون كله، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه.
فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو، غافلين عما في الأمر من حق وجد. وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب، وعما ينتظر المكذبين المستهزئين.. فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل:
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنآ أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}..
لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة، لا لعبًا ولا لهوًا. ودبره بحكمة، لا جزافًا ولا هوى، وبالجد الذي خلق به السماوات والأرض وما بينهما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الفرائض، وشرع التكاليف.. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون، أصيل في تدبيره، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات.
ولو أراد الله سبحانه أن يتخذ لهوًا لاتخذه من لدنه. لهوًا ذاتيًا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته الحادثة الفانية.
وهو مجرد فرض جدلي: {لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا}.. ولو كما يقول النحاة حرف امتناع لامتناع. تفيد امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط. فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوًا فلم يكن هناك لهو. لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه.
ولن يكون لأن الله سبحانه لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلًا: {إن كنا فاعلين}.. وإن حرف نفي بمعنى ما، والصيغة لنفي إرادة الفعل ابتداء.
إنما هو فرض جدلي لتقرير حقيقة مجردة.. هي أن كل ما يتعلق بذات الله سبحانه قديم لا حادث، وباق غير فان. فلو أراد سبحانه أن يتخذ لهوًا لما كان هذا اللهو حادثًا، ولا كان متعلقًا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث.. إنما كان يكون ذاتيًا من لدنه سبحانه. فيكون أزليًا باقيًا، لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية.
إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو، إنما يكون هناك جد، ويكون هناك حق؛ فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض:
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}..
و{بل} للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو؛ والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس.
وهو غلبة الحق وزهوق الباطل.
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة. فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة. تقذف به على الباطل، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب..
هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن خلقه هذا الكون أصلًا، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشيء يطارده الله؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه!
ولقد يخيل للناس أحيانًا ان واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشًا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزويًا كأنه مغلوب. وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء. ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء.
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه.. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينًا من الدهر عرفوا أنها الفتنة؛ وأدركوا أنه الابتلاء؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفًا أو نقصًا؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف.. وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء. أما العاقبة فهي مقررة: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} والله يفعل ما يريد.
هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء. وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق.. ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: {ولكم الويل مما تصفون}..
ثم يعرض لهم نموذجًا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم. نموذجًا ممن هم أقرب منهم إلى الله. ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته، لا يفترون ولا يقصرون:
{وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون}..
ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله، ولا يحصيهم إلا الله. والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر. والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن. ولَكِننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم. وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب.
وعلم ذلك عند الله.
فإذا نحن قرأنا: {وله من في السماوات والأرض} عرفنا منهم من نعرف، وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن.